Monday, January 7, 2008

تخطيط المدينة العربية الاسلامية

تخطيط المدينة العربية الاسلامية
الخصوصية و الحداثة


أ . د. كامـل الكنـاني


المستخلص
تنفرد كل مدينة عربية اسلامية بصفات مميزة تمليها عليها طبيعة موقعها وخصائصه, اذ نراها جبلية في الجبال, صحراوية في الصحارى , و ساحلية في السواحل , و يتجلى ذلك في طرز مبانيها و تصاميمها و حتى في بنيتها الهيكلية.
الا ان هذا التفرد لم يقف عائقاً امام ظهور صفات و خصائص مشتركة لهذه المدن املتها عليها عبر الزمن, عوامل مخلتفة نابعة من صلب حياة المجتمع بعاداته و تقاليده و معتقداته و متطلباته المعيشية و ظروفه البيئية التي تظافرت جميعها في عملية بناء و تشييد المدينة العربية الاسلامية لترسم ملامح و خطوط حياة المجتمع على عمارته و مفرداتها و من ثم تمنحها لغتها الخاصة والمميزة .
المدينة العربية كائن حي يتأثر و يؤثر, ياخذ ويعطي جريا على سنة الحياة التي اختلفت عصورها و ظروفها. هذا الاتجاه يساعدنا كثيرا في الكشف عن اصالة هذة المدينة او عن تميز قيمتها, التي شكلت وعاءها المادي في توافق تام بلور في النهاية صورة المدينة, فالجامع, و الساحة, والميدان, والسوق والفناء الداخلي هي الملامح الاصلية للمدينة العربية الاسلامية, و بمرور الزمن و مع التوسعات الكبيرة التي شهدتها معظم المدن الاسلامية, تأثرت هذة الملامح و تداخلت فيها استعمالات الارض بانماط مغايرة تمام عن النمط التقليدي و بالذات النمط الحضري السكني، هذا التاثر افقد المدينة خصوصيتها بفعل عوامل منها تقنية واقتصادية و اخرى اجتماعية وبيئية في تحديد هذه الانماط ضمن نسيج المدينة عبر فترات زمنية من توسع و نمو المدينة العربية الاسلامية, مما يتطلب بذل الجهود لاعادة تفهم اكثر لطبيعة ما يجب ان يكون عليه تخطيط هذة المدينة في قدرتها على التكييف المقترن بالتفاعل الحي مع متطلبات العصر في اطار من الخصوصية المطلوبة.
المقدمة
تمتلك المدينة العربية الاسلامية موجوداً تراثاً معمارياً ثميناً جاء حصيلة انجازات معمارية رائعة لمراحل تاريخية متتالية تكاملت مع بعضها عبر الزمن لتظهر بشكل كيان مادي موحد اصبح السمة المميزة لشخصية المدينة و تراثها, و النواة التي فيها نمت و تطورت واتسعت لتشمل مساحات واسعة خارجها. لكن هذه المدن عانت و لاتزال تعاني من شتى التغييرات السكانية والبيئية والتكنلوجية التي تولّد عنها تنوع و اختلاف و من ثم تنافر في انماطها الحضرية, الذي يتفاقم يوماً بعد آخر مهددا نسيج هذه المدن بزوال شخصيته العمرانية و التخطيطية.
ان مشكلة البحث تكمن في ان عملية التطور التاريخي للمجتمع العربي و ماتبعه من تغير في عمران المدينة وانماطها السكنية يكشف عن تشوه المظهر العمراني العام للنسيج الحضري للمدينة وخطورة فقدانها لهويتها العربية الاسلامية. لذلك فان فريضة البحث تقوم على ان التناقض و التنافر الواضحين في الانماط الحضرية الذين تشهدهما المدينة العربية الاسلامية هو نتاج لعوامل وظروف متعددة تظافرت عبر مراحل نمو وتوسع نسيج هذه المدينة. و من هنا فان هدف البحث هو الكشف عن العوامل التي ساهمت في تغير النمط الحضري التقليدي و امكانية التوافق مع متطلبات روح العصر و الحداثة.
لاستكشاف هذه الفرضية, و تحقيقا لهدف البحث استندت المنهجية على التحليل التاريخي- المقارن لخصائص المدن العربية الاسلامية في تحليل النمط الحضري و تشخيص ملامح الحداثة فيه لتشخيص امكانيات التعايش بين القديم و الحديث في اطار من الخصوصية لهذه المدينة.
اولا : المدن العربية الاسلامية / نظرة تاريخية
تميزت الحضارة في المدن الاسلامية بانها وليدة التشريع الاسلامي المفصل لنواحي الحياة دستوراً مهيئاً سارت عليه الحياة في المجتمع, باعتبار ان "المدينة هي الحضارة "(1) وان أية دراسة لهذه المدن تتطلب ان تضع في اعتبارها ان الاسلام و نظمه و احكامه هي المحور الاساسي الذي تدور حوله حياة المدينة يتفاصيلها كلها, اجتماعية كانت او اقتصادية او سياسية بالاضافة الى شكلها المادي ودلالاته المختلفة. لكن هذا لا يعني عدم تأثر هذه المدينة باصول تاريخية لمدن ما قبل الاسلام, فهناك تواصل حضاري بين المدينة القديمة و المدينة الاسلامية, في اعتماد مؤشرات تخطيطية انعكست على نسيجها الحضري.

1-الخصائص التخطيطة: الجذور التاريخية و هوية الاسلام
ان المدينة العربية الاسلامية كائن حي يتأثر و يؤثر ياخذ و يعطي جريا على سنة الحياة التي اختلفت عصورها و ظروفها, فالمدينة العربية الاسلامية امتدت في جذورها الى المدن القديمة (ما قبل الاسلام) بما تحتويه من فكر تخطيطي و معماري نابع من الانسان وبيئته ,(2) استندت اليه المدينة الاسلامية وطورته سواء في المدن التي تم تشييدها من قبل المجتمع الاسلامي, كما هو الحال في مدينة بغداد مثلاً او في المدن الاخرى التي تم احتلالها وبخاصة تلك الخاضعة للسيطرة الفارسية و اليونانية (3). في كلا الحالتين كان للاسلام تأثيره الواضح في النمط العمراني لهذه المدن. فهناك ترابط و تواصل حضاري, يتمثل في كيان حضري متماسك محوره الاساس الجانب الروحي وارتباط الانسان بالغيبيات. اذ تمثل المباني العامة كالمعابد و القصور, قلب المدينة القديمة, ومنها تتفرع الطرق العامة التي تقع عليها الدور السكنية معبرة عن نسيج حضري, ثم القشرة الخارجية التي تتمثل بالاسوار و الخنادق لحمايتها, اما المناطق التجارية فكانت تتركز في الغالب على واجهات الانهار القريبة من ابواب المدينة (4) .
هذه البنية الحضرية انعكست في تخطيط المدينة العربية الاسلامية بتكوينات حضرية و معمارية اظهرت تماسك هذه المدن ووحدة نسيجها العضوي في الخصائص و المميزات, فالسوق و الخان تمثل عناصر موروثة في الهيكل الحضري لمدن ما قبل الاسلام في حين اختفت عناصر اخرى لا تمثل او تعكس آليات الاداء الوظيفي لصيرورة تكوين المدينة الاسلامية, كما هو الحال في المسارح او الملاعب و ظهرت بديل عنها عناصر اخرى كالجوامع او المدارس, حيث يمثل الجامع المسجد المركز و النواة التي يتكون حولها العمران, و هو ما يتمشى مع الافكار الاسلامية في اعتماد الدين كمحور اساسي في الحياة . فالمسجد لا يشكل دارا ًللعبادة وحسب ولكن مركزاً سياسياً , اجتماعيا ً وحضارياً فهو المؤسسة الدينية و الثقافية التي تستوعب الفعاليات الدينية و التعليمية و الثقافية, وهو المكان الذي تحتكم فيه الفئات المختلفة من المجتمع الحضري مع بعضها. وقد تاثرت المدن الاسلامية في المغرب و مصر بنمط المخططات المربعة و المستطيلة, اما في الاقاليم الشرقية فقد تاثرت بالشكل الدائري للمدن , كما هو الحال في بغداد (5).

2-استعمالات الارض في المدينة العربية الاسلامية
ان ما تجدر الاشارة اليه مسبقاً انه لم يكن هناك مخطط اساسي مسبق للمدينة الاسلامية ، بل ان التكوين الشكلي والفضائي للنسيج الحضري للمدن الاسلامية لم يكن نتيجة تخطيط مسبق ولا نتيجة عفوية, بل جاء نتيجة طبيعية لتفاعل الانسان مع بيئته الثقافية و الطبيعية . هذة النتيجة هي خلاصة تجارب و ممارسات طويلة لعب فيها الزمان و المكان دورا ًاساسياً في بلورتها مما اعطى النسيج الحضري خصوصيته و مميزاته,(6) فالجامع , و الساحة , و السوق و الفناء الداخلي هي الملامح الأصيلة للمدينة العربية الاسلامية.
تستند استعمالات الارض في المدينة العربية الاسلامية على حقيقة التكامل بين المكونات الدنيوية ضمن اطار المعتقدات الدينية و هو ما يعبر عنه بنمط الاستعمال المختلط للارض حيث يتكون قلب المدينة من الابنية الدينية و الحكومية و السوق و الفضاءات المرتبطة بها. يعتمد هذا النمط على القوى الروحية بكونها محور الحياة , فنجد الجامع يمثل مركز المدينة و يرتبط به السوق الذي يمثل المركز التجاري الرئيس للمدينة معبراً عن التفاعل المهم بين الجانب ااروحي و المادي في المدينة الاسلامية محاطاً بالهيكل العمراني الذي يحتل فيه السكن النسبة الغالبة, الشكل رقم (1) . يربط السوق , الذي هو شريان الحياة الاقتصادية, بين مركز المدينة و اطرافها تتخللها صناعات يدوية و حرفية غير ملوثة, في حين تعزل الصناعات الملوثة خارج المدينة بما يؤمن سلامة ساكنيها من الاضرار التي قد تلحق بالبيئة.
تربط الشوارع والازقة بين هذه الاستعمالات التي جاءت بتدرج و توزيع عضوي و انسيابي بحيث يحقق سهولة التواصل بين هذه الاستعمالات.

ثانيا خصائص النمط الحضري التقليدي للمدينة العربية الاسلامية
يعد الشكل الفيزياوي للمدينة منظومة مؤلفة من مناطق للفعاليات (Activity Areas ) و فضاءات (spaces) و كتل بنائية (Masses) و نظام للحركة (Circulation System). و ان عملية التنظيم الجيد لهذه العناصر هو من اهداف "المخطط الحضري" الذي ينشد التوقيع المكاني الملائم و التوزيع العقلاني لهذه العناصر وفق مقياس انساني و بما يتوافق مع القيم المرئية و الجمالية لها.
ان مظهر المدينة هو القيمة الحسية لها بوصفه احد مظاهر الشكل العمراني و هو حصيلة تخطيط المدينة الذي يختص بنمط التوزيع الموقعي للفعاليات و علاقاتها مع بعضها , بفعل عوامل مختلفة نابعة من صلب حياة المجتمع بعاداته و تقاليده و معتقداته و متطلباته المعيشية و ظروفه البيئية التي تظافرت جميعها في عملية بناء المدينة العربية الاسلامية و تشييدها لترسم ملامح حياة المجتمع و خطوطها على عمارته ومفرداتها ومن ثم خصوصيتها. ان الاسس التي تقوم عليها الحضارة العربية الاسلامية, الذي ترك بصماته على كل المدن التي نشأت و تطورت في فضائها الحضري, هو التوحيد الذي يخترق الرؤية و الممارسة للانسان العربي, فهو لا يشمل العبادات و المعاملات وحسب, بل يمتد ليشمل تكوين البنية الحضرية برمتها. هذه الرؤية الكونية انعكست في فضاءات المدينة العربية الاسلامية اكثر من أي مكون آخر من مكونات الحضارة الاسلامية. ان اهم الصفات التي اتسم بها النمط الحضري للمدينة العربية الاسلامية يمكن اجمالها في المؤشرات الاتية:
أ- المقياس الانساني و جمالية التصميم
هذا المقياس يتمثل في جميع مستويات الحيز المكاني للمدينة, العامة و الخاصة والتفصيلية, فعلى المستوى العام يتحدد حجم المدينة و ابعادها بالدرجة الاولى بامكانية حركة المشاة, اما على المستوى الخاص فان حجم استمعالات الارض العامة من مساحات و طرق و ازقة فضلاً عن الابعاد العمودية للابنية المطلة عليها، جميعها ذات مقاييس انسانية. ان السائر في ازقة المدينة العربية الاسلامية, سيلفت انتباهه ذلك التغيير في المشاهد المتتالية ضمن الزقاق الواحد, اذ ان المرء يتعرض في تلك الازقة الى تنويع متدرج في كل خطوة يخطوها, و قد اقترن ذلك في جمالية الوحدات السكنية بتكويناتها المعمارية من خلال مداهلها, الشناشيل و البروزات, و الانطقة و الاقواس, و مواد البناء (الطابوق والآجر) المحلية و طرز بناءها وزخرفتها و نقوشها.

ب-الامتداد الافقي و محدودية البناء العمودي
ان ظاهرة الامتداد الافقي او الارتفاع الموحد لابنية المدينة العربية الاسلامية اسهمت في تحقيقها عدة عوامل منها عدم وجودة حاجة ماسة الى استغلال كبير للارض حتى في المنطقة المركزية من المدينة, وذلك لقلة حجم الفعاليات العامة و قلة عدد السكان ومن ثم عدم وجود كثافة سكانية عالية تدعو الى الارتفاع العمودي لاستغلال المساحة سواء في السكن او في الفعاليات العامة والمركزية. بالاضافة الى الامكانات التقنية المحدودة انذاك، هذه العوامل كلها اسهمت في الحد من الاتجاه العمودي في البناء, يستثنى من ذلك المباني الدينية والصروح والابراج الدفاعية و الأسوار. هذا التوافق بين الامتداد الافقي للمدينة و ابراز الانبثاق العمودي للقباب والمنائر كركائز واضحة وبنية تهيمن على خط الافق للمدينة كاملا هو من اهم ما يميز المشهد الحضري للمدينة العربية الاسلامية (الشكل رقم 2). هذا الامتداد الافقي انعكس على النمط العمراني بدلالات بيئية واجتماعية, اذ ان افقية المساكن مثلاًسمحت بتخصيص فناء في كل مسكن يقوم بوظائف التهوية والانارة, كما ان انغلاق الواجهات يؤدي الى تحقيق العزلة وحرمه العائلة وتمكين افرادها من القيام باعمالهم الخاصة بكل حرية و طمأنينة. ان افقية البناء في المدينة العربية الاسلامية وتواضع ارتفاعه يجعل الاطار العمراني للمدينة خاضعاً لنظر الانسان بدلا ًمن خضوعه للمباني الشاهقة, كما هو الحال في المدن القائمة وفق النمط الغربي.

جـ-العضوية و التناسق في الاداء الوظيفي
تتجلى المدينة العربية الاسلامية, بمظهرها العام, بتلاحم مفرداتها و تكامل مكوناتها في كيان عضوي موحد, فالوحدات السكنية في معظمهامتشابهة حجماً, متناسقة كتلة وتصميماً, بحيث تبدو في مجملها متسلسلة ومتجانسة ضمن اطارها الكلي, يتوسطها مركز المدينة بجامعة واسواقه و فعالياته العامة الاخرى مستجيبة بذلك لظروف المناخ سواء كان ذلك في التصميم أم في اختيار مواد البناء او على صعيد التفاصيل او المفردات, و ما تلاصق الابنية والدور وضيق الطرقات و تعرجها وتدرج الفضاءات و الساحات الا شاهدا ًواضحاً على عضوية هذا النمط العربي الاسلامي (الشكل رقم 3). هذه العضوية تتجلى في موقع المسجد الجامع, حيث يحتل الوسط الوظيفي اكثر منه الوسطى الجغرافي, فموضعه لايخضع , في الغالب, الى قواعد التخطيط الهندسي بقدر ما يستجيب الى حاجة المجتمع الحضري المسلم لمكان يجمعه و ينظم حياته, فالجامع هو المرجعية الاولى التي يتعلم فيها امور دينهم و دنياهم (العبادات و المعاملات) و ما يرتبط به من النشاطات, والاسواق, و المساكن, و التجهيزات الجماعية ثم اسوار المدينة و ابوابها. هذه الاستعمالات كلها اوجدت نسيجاً عضوياً يسمح بالتعايش الوظيفي, وربما تنطيق واضح ولا حدود فاصلة بين الوظائف الحضرية , فالاسواق متصلة بالاحياء السكنية والتجهيزات الاجتماعية (دينية, ثقافية, صحية ....الخ ) موزعة على ميادين المدينة كاملة وهذا ما اكسبها خصيصة الدمج والتناسق بين وظائفها. فالنسيج الحضري وظيفي– مندمج , ومجاله متعدد الوظائف, حيث يختلط الاجتماعي بالاقتصادي والديني بالترفيهي .

5-الاحتوائية والتآلف الاجتماعي
تشكل فعالية السكن عنصراً مهماً في التكوين المورفولوجي للمدينة العربية الاسلامية, اذ تعد المحلة السكنية بخصائصها وصفاتها المميزة ترجمة حية للعلاقات والروابط الاجتماعية التي تسود المجتمع العربي الاسلامي, وتعد الدار السكنية هي الوحدة الاساسية المكونة للمحلة.
ان اهم ما يميز هذا النمط الحضري هو الاحتوائية (Contextuality) التي تعني عمرانيا اقتراب (Proximity) الناس و الاشياء بعضهم من بعض, بعكس الانكشافية (Decontextuality) التي تتباعد فيها العناصر التي تتواجد في الحيز الحضري. حيثما يكون الاقتراب شديداً, يتحقق الحضور المشترك وتسود الألفة و المودة, لان الاقتراب من البشر والاشياء يزيد من المعرفة بهما. ففي المناطق التقليدية, التي ما تزال فيها بقية من بقايا الاطر العمرانية الاصيلة, تكون معدلات التلاقي اليومي عالية ويسود فيها التعامل وجها لوجه. ان هذة الحميمية التي توفرها الاحتوائية العالية التي تشتغل فيها الحواس والانسانية والعواطف كافة تمنح الحياة اليومية ديناميكية وازدهارا تتجليان في الوحدة السكنية. فكما هو معروف فان الصفة المميزة الرئيسة للبيت العربي الاسلامي هي وجود الفناء الداخلي المفتوح مربع او مستطيل الشكل, تنفتح عليه غرف الدار وفضاءاتها جميعا, تعبيراً عن حالة التقارب والتلاحم الاجتماعي لافراد ذلك البيت في تلاقيهم وتحاورهم وتسامرهم، كما انها تعكس من جانب اخر خصوصية اجتماعية في الترابط الاجتماعي يبدا بالاسرة في تلاحمها و خصوصيتها في تصميم الوحدة السكنية اعتماداً على المؤشرات التخطيطية الآتية:
1-التوازن بين خصوصية الاسرة و تفاعلها مع المجتمع .
2-تحقيق حرمة السكن من خلال :
أ- تجميع الوحدات السكينة وفق نظام معين يحقق هذة الحرمة.
ب-علاقة المسكن البصرية مع مجاوراته.
ج-ارتفاع الاًبنية و الشرفية.

هذا الترابط الاجتماعي ينعكس تدريجياً بين مكونات المدينة من فناء البيت الى الزقاق والساحة والجامع الكبير والسوق وصولاً الى المدينة كلها.
ان هذه الصفة مع الصفات الاخرى للمحلة السكنية ( تجانس الوحدات السكنية من حيث الابعاد والتحام وتلاصق كتلها ) تكون تركيباً معماريا ًيحقق بخصائصه المميزة المتطلبات الاجتماعية المرغوبة.
يتلبور هذا التكامل العمراني–الاجتماعي من خلال الاساس الذي تستند عليه الاحياء السكينة للمدينة وهو الاساس الاجتماعي, على عكس احياء المدينة المعاصرة التي تعرف بمقياس مادي, فالاحياء تقوم على اساس الانتماء القبائلي او التبعية الدينية او العقائدية لا على اساس المستوى المادي و الاقتصادي. هذا التنظيم المكاني– الاجتماعي يقلل من مظاهر الحيف و التفرقة و التوتر الاجتماعي, ففي كل حي هناك الفقير والغني والجاهل والعالم وهذا من شأنه تحقيق الروابط بين الناس و اكساب الافراد شعوراً بالثقة بالنفس ومن ثم الاندماج والانسجام مع الاخرين.

هـ- التكييف البيئي ومعالجة التلوث
من الخصائص المميزة للنمط العربي الاسلامي هي الاستجابة للظروف المناخية (اتجاهات الرياح, درجات الحرارة ....الخ ) والتكييف معها في تخطيط وتصميم الهيكل العمراني وفضاءاته المختلفة. هذا التعامل الواعي مع الظروف البيئة بدأ من اختيار موقع المدينة في اعتماد المناخ واعتداله كاحد المقومات الضرورية عند هذا الاختيار, تعبيراً عن التفاعل بين الانسان وبيئته الطبيعية, في توفير بيئة صحية وسليمة لساكني المدينة, وما اختيار موقع مدينة بغداد من قبل الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور في عام 145هـ , الا مثالاًعلى ذلك (7) .
ويبدو هذا التكيف واضحا ًمن وجود الفناء الداخلي في الوحدة السكينة لتوفير التهوية بالاضافة الى الحماية من اشعة الشمس. هذا الفناء يقوم على مبدأ الانفتاح الى الداخل, حيث يتم توجية اجزاء الدار بابوابه ومنافذه حول الفناء وتوفر الظل المناسب والتقليل من تأثيرات الرياح والاتربة, اذ يعطي للخارج جدراناً مرتفعة بسيطة قليلة الفتحات او خالية منها, تخترقها فتحة واحدة واطئة هي مدخل الدار.
كما تم مراعاة الجوانب المناخية عند تخطيط الشوارع و اهمها (8) :
1- توجية الشوارع من الشمال الى الجنوب بحيث تتعامد مع حركة الشمس, كما انها تساعد على مرور الرياح الشمالية خلالها.
2- تظليل الشوارع, حيث يتطلب بعض المحددات العمرانية وكما يلي :
أ-ارتفاع المباني على جانبي الشارع بنسبة (1:2) او اكثر, و بما يوفر الظل في هذه الشوارع.
ب- الشناشيل البارزة وامتداد الطابق الاول فوق الشارع زاد من الظل.
ج- تغطية الشوارع التي تحوي اسواق بالكامل.
و لم يكتف تخطيط المدينة في التكيف مع الظروف المناخية فحسب و انما استند ايضاً على مبدأ لاضرر ولا ضرار في معالجة اثار التلوث البيئي الناجمة عن فعاليات السكان المختلفة، فعلى مستوى تخطيط استعمالات الارض الصناعية, حددت مظاهر الضرر المادي الناتج من تفاعل النشاطات داخل التكوينات المعمارية للمدينة في ثلاث مظاهر رئيسة:
- الدخان الضار
- الرائحة الكريهة
- الصوت المزعج
و تطبيقاً لذلك وجب ابعاد الفعاليات التي تتسبب في ذلك كأفران الفخار والجير و المدابغ والصناعات التي تصدر ايضاً صوتاً مزعجاً عن الوحدات السكنية التي تشغل القطاع الاكبر من حيز المدينة.

و- سهولة الوصول وانسيابية الحركة
ان انظمة الحركة لا تتعارض مع الوحدة العضوية للنسيج الحضري في المدينة العربية الاسلامية, اذ تشكل شبكة الطرق والمسالك المترابطة بالتواءاتها وانحرافاتها بانوراما بصرية تتحرك خلالها عين المشاهد عند تنقله في دروبها وازقتها التي تتسع حيناً وتغدو ضيقة حيناً آخر وبما يبعد الملل عن عين المشاهد الذي لا يشعر بالمسافة التي يقطعها. هذه الانظمة تهدف ايضاً الى غايات بيئية في الحفاظ على رطوبة الهواء لاطول فترة ممكنة في فصل الصيف, وغايات ثقافية – ترفيهي في تحقيق رغبة الساكنين بالاقتراب بعضهم من البعض الآخر. و بما يساعد على تبادل الافكار اضافة الى ما يثيره السير في الازقة الملتوية من تأمل بعيداً عن الضجر الذي يثيره السير في الشوارع المستقيمة.
و تتكون هذة المنظومة بصورة عامة من (الشكل رقم 4)
1- شبكة الطرق العامة وهي على ثلاث مستويات (9) :
- المستوى الاول: تمثله الشوارع التي تربط البوابات الرئيسة للمدينة بمركزها حيث يقع الجامع والاسواق الرئيسة.
- المستوى الثاني: تمثله طرق المحلة الرئيسة وتربط بين شوارع المستوى الاول , وهي ايضاً بمثابة الشرايين الرئيسة التى تربط المحلات المتجاورة.
- المستوى الثالث: تمثله الطرق الثانوية في المحلة التي توفر بدورها محاور ربط للمناطق ضمن المحلة الواحدة التي لا تخدمها طرق المستوى الثاني.

2 – الازقة الخاصة المغلقة النهاية
وهي الازقة الخاصة بمجموعة الدور التي تخدمها و يمكن ان ترتبط مع أي مستوى من الطرق العامة في اعلاه.

تعكس هذه المنظومة المترابطة من المسالك في هيكل المدينة ترابط مركزها باحيائها ومحلاتها السكنية ضمان تدرج الانتقال وسهولة الوصول من الطريق العام الذي يحقق تكامل اجزاء المدينة, الى الازقة الفرعية التي يتداخل فيها العام والخاص, الى الزقاق الخاص. وتعد الساحات الوسطية نقطة التقاء مجموع الشوارع او السكك او الازقة. هذا التدرج يؤدي الى تشكل الاحساس بالانتماء للمكان, كما انه يضمن التدرج في الرؤية من خلال الانتقال من فضاءات مكشوفة لاشعة الشمس الى فضاءات ظلية , بحيث يبقى مستوى البصر متوازياً.
ان الخصائص السابقة هي التي اعطت للنمط العربي الاسلامي القديم تميزه وخصوصيته مقارنة بانماط حضرية اخرى, حيث تكتمل فيه الجوانب العمرانية بالجوانب الاجتماعية ووفق عوامل حضارية وقيم اجتماعية, لكن بمرور الزمن ومع التوسعات الكبيرة التي شهدتها معظم المدن العربية الاسلامية التقليدية, ظهرت انماط حضرية مغايرة ومختلفة تماما عن النمط التقليدي, افقدت المدينة العربية خصوصيتها بفعل عوامل متعددة اسهمت في اعطاء انماط حضرية مختلفة اذ يترجم كل واحد من هذه الانماط العوامل التي ادت الى ظهوره وترسيخه في نسيج المدينة مع باقي الاشكال, وذلك عبر فترات زمنية من توسع ونمو المدينة العربية الاسلامية.

ثالثا: توسع المدينة العربية الاسلامية و نموها : ظهرت انماط حضرية جديدة
بقدر ما تأثرت المدينة العربية الاسلامية بمدن ما قبل الاسلام, فانها ايضا شهدت تحولات وتغيرات على نسيجها الحضري بفعل عوامل متتابعة عبر الزمان والمكان, كان لها تأثيرها الواضح في اعطاء انماط حضرية جديدة لم تشهدها هذه المدينة سابقا, هذه العوامل يمكن اجمالها في:
1- ارتفاع معدلات النمو السكاني.
2- اتساع المساحة و تنوع استعمالات الارض.
3- الاثار التقنية والعلمية.

انتجت هذه العوامل الرئيسة ظواهر كانت هي الاخرى عوامل ثانوية في تأثيرها على تغيير الانماط الحضرية, فخلال فترة زمنية معينة وفي مكان ما يظهر عامل رئيس تتظافر معه عوامل ثانوية لتعطي بالنتيجة نمط حضري معين, ثم في مرحلة زمنية اخرى يظهر عامل رئيس اخر وتصبح بقية العوامل ثانوية, ومن ثم ينتج نمط حضري آخر وهكذا.

أ . النمو السكاني
لمتغير السكان اثره على تشكيل المدينة اذ ترتبط خصوصية المدينة ومساحتها بعدد سكانها وتوزيعهم وكثافتهم وانشطتهم الاقتصادية. والمدينة العربية شهدت ارتفاع في معدلات النمو السكاني بفعل عاملي الهجرة والزيادة الطبيعية للسكان. والهجرة التي شهدتها هذه المدينة لم يقتصر على سكانها الوطنين فحسب وانما ارتبط ذلك بعامل الهجرة الاجنبية نتيجة السيطرة الاستعمارية لفترات زمية متباينة في مدن المغرب العربي مقارنة بمدن المشرق العربي.

1. الاستعمار وظهور النمط الحضري الاوربي
خلال فترة تقدر بأكثر من قرن بالنسبة للجزائر مثلا او عشرات من السنين، كما هو الحال في سوريا ومصر ولبنان مثلا، دخل العالم العربي في دوامة الاحتلال والاستعمار بأستثناء الجزيرة العربية التي لم تتأثر بوطأة الاستعمار الا هامشيا كما في عدن مثلا ، او لفترة مؤقتة عند اكتشاف النفط على طول الخليج العربي. وصاحب هذا التواجد الاستعماري في العالم العربي انقلاب جذري في اوضاع وخصائص الحيز الحضري لم يشهده من قبل من خلال :
1. حدوث موجات مهمة من المهاجرين الاستعماريين الاجانب، ففي المغرب العربي، وفي سنة 1936 كان عدد المستعمرين الاجانب: الفرنسيون والاسبان والايطاليون حوالي (2) مليون نسمة منهم 90% استقروا في المدن واصبحوا يمثلون 45% من سكانها الاجماليين (10) .
2. شهدت هذه المرحلة انشاء الكثير من المراكز الحضرية ، ففي المغرب مثلا انشئت مدينتا ‌ًالقنيطرة ً و ًالدار البيضاءً، وهذه الاخيرة كانت مركز تجمع ريفي بحجم سكاني 20000 نسمة سنة 1900 ، اصبحت تضم 102000 نسمة سنة 1921 . وفي الجزائر كانت الحالة خاصة نظرا لطول فترة الاستعمار واقترانه بهجرة قوية للمستعمرين الفرنسيين، شهدت انشاء مدن صغيرة كثيرة خاصة خلال الفترة 1840-1851 ، كانت موجهة لاحكام السيطرة العسكرية على البلاد. هذه المدن تميزت بنمطها ونظامها الشبكي (او الشطرنجي) بشبكات متعامدة مهيأة للتجهيزات العسكرية والادارية (11).‌‌‌
3. بوجود هؤلاء المهاجرين الاستعماريين امتزج التخطيط والاشكال الجديدة ذات النمط الاوربي مع الانظمة والاشكال التقليدية الموجودة مسبقا (الشكل رقم 4) وبصفة عامة شهدت هذه الفترة ازدواجية في الاشكال الحضرية كما تم التعدي على المدينة العربية الاسلامية وكان ابرز ذلك شق طرق واسعة وتمزيق النسيج التقليدي القديم وتحويل بعض الاحياء وتخصيصها للاوربين (الشكل رقم 5) .

2-الزيادة السكانية والهجرة الريفية
شهدت المدن العربية حالة تسارع في عملية التحضر، وبخاصة بعد فترة الاستقلال ، التي شهدت حركة بناء وتشييد ضخمة وواسعة في معظم هذه المدن. وكانت هذه الاعمال تهدف بالاساس الى توفير حاجات ساكني المدينة من خدمات مجتمعية انعكست على تحسين الوضع الصحي والثقافي مما ترتب عليه ظهور زيادة في النمو الطبيعي للسكان. وقد اقترنت هذه الزيادة بحركة هجرة من الريف الى المدينة بسبب التفاوت التنموي لصالح الاخيرة، لذلك اعتمدت معظم هذه المدن سياسات اسكانية عاجلة بأستيرادها لانماط جاهزة غربية في عمومها(12) وفيها اصبحت المجتمعات التقليدية فاقدة للتوازن نتيجة الادخالات التقنية والثقافية والعصرنة. فعلى سبيل المثال، ان العواصم القديمة مثل بغداد والقاهرة ودمشق تطورت واتسعت بعملية اضافة الجديد الى القديم فنتج عنها انقسام في تركيب المدينة (13)، وهذا لم يحدث في مدن حديثة العهد في الوطن العربي، كالكويت ومعظم مدن الخليج الحديثة التي لم تنشأ الى جوار مدن قديمة عريقة بل اقيمت حديثا على رمال الصحراء.

ب . اتساع المساحة وتنوع استعمالات الارض
انعكست زيادة النمو السكاني للمدن العربية على تعدد وتنوع الفعاليات والنشاطات التي يمارسها السكان ضمن الحيز المكاني للمدينة، مما اثر على زيادة مساحة المدينة العربية واستعمالات الارض فيها. تتعرض المدن القديمة الحديثة الى ضغوط اقتصادية عمرانية نتيجة نموها الحديث والتطور في النقل والعمران الذي يؤدي الى تغيير استعملات الارض في المدينة القديمة، وهو بحد ذاته مشكلة صعبة. المدينة تتوسع مع زيادة سكانها، يشجع ذلك تطور وسائل النقل مما ينعكس على تفعيل انشطة الانسان وفعالياته المنسجمة مع مرحلة تطوره، ولما كان الانسان والمجتمع ذوي صفة عضوية منعكسة على التغيير الجاري في مدينته، فأن اساس هذا التغيير هو وظيفي بدافع تلبية حاجاته المتجددة والمتغيرة في الكم والنوع، بما في ذلك الخدمات المجتمعية على وفق المعايير المستجدة التي يفترض ان تنبثق من الفهم الواعي للواقع الاجتماعي للمدينة العربية. فعلى سبيل المثال، بغداد بمساحة (101) كم2 عام 1956 هي غير استعمالات الارض في بغداد بمساحة (900) كم2 عام 1997 وبسكان يزيد عددهم اربعة اضعاف ما كانت عليه هذه المدينة (14) وهكذا الحال في مدن عربية اخرى.
واذا القينا نظرة عابرة على نماذج الانماط السكنية لمدينة بغداد، على سبيل المثال ، منذ نشأتها وعلى مدى تأريخها الطويل، نجد ان النمط السكني كان في الواقع نتاج مستوى التطورات الذي مرت به المدينة في مراحلها التاريخية المختلفة، بما يعكس تلبيته للحاجة السكنية في تلك المرحلة. ومن الجدير بالملاحظة ثبات النمط التقليدي للمحلات السكنية ( المعتمدة على الوحدة السكنية ذات الفناء الداخلي ) منذ مرحلة الخلافة العباسية واستمراره في المرحلة العثمانية، حتى بداية القرن العشرين. ثم بدأت تظهر الانماط الاجنبية في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن، ثم ظهور وانتشار الانماط السكنية الحديثة في مناطق الضواحي الممتدة خارج المدينة القديمة. اذ تزيد مساحة الاجزاء الحديثة التي تعود للمرحلة المعاصرة على ثمانية اضعاف مساحة المدينة عام 1956(15). وضمن مسارات التطور بزحف مركز المدينة مستحوذا على استعمالات الارض السكنية, حيث تحل الاستعمالات التجارية والخدمية محل الاستعمال السكني مع ما يترتب على ذلك من ازدواجية الصفة, اذ يتكون من جزئين غير متنافسين, وربما متكاملين , الاول تقليدي والثاني معاصر بحكم تخصص كل منهما في البنية الوظيفية و المعمارية و بما يساهم في التشكيل النهائي للمدينة.

جـ - الآثار التقنية و العلمية
عزز التطور التقني و العلمي التمايز في النسيج الحضري للمدينة العربية الاسلامية, و هو تمايز يغلب عليه الطابع الغربي لمجتمع تسيطر عليه الآله, القانون الاقتصادي المادي النفعي، في استغلال وحدة المساحة باكبر مردود ممكن, مع ارجحية الاستعمال التجاري والثقافي والتعليمي لأستعمالات الارض في المدينة. يضاف الى ذلك الاهمية النسبية في قطاع التشييد بأعتماده على مواد بناء جديدة كالسمنت و الطابوق وهي في مجملها من نمط العمارات ذات الطوابق المتعددة المبنية على الطراز المعماري الاوربي, حيث ترتفع نسبة هذه الابنية لحداثتها خلال النهضة العمرانية الحديثة التي شهدتها المدينة العربية منذ الثلاثينات، أضافة الى التغير في مواد البناء والتطور في وسائط النقل الذي يمثله اساساً دخول السيارة و قطار الانفاق في النسيج الحضري, وما يتطلبه من شق الطرق داخل المدينة القديمة او الانفاق و الجسور المعلقة ومواقف السيارات ومن ثم تغيير مورفولوجية النسيج الحضري التقليدي, وبروز نمط حضري مختلف يعتمد على وجود انظمة الحركة و الاتصال.

رابعاً : التواصل الحضاري للمدينة العربية الاسلامية
ان هذا البحث لا ينطوي على أي دعوة للعودة الى الاطار العمراني التقليدي, و هو لا يعني ايضاً انفصالا ً عن كل ما هو تقليدي وقبول كل ما هو عصري وحديث, فهي ليست دعوة الى ازقة المدينة التقليدية في اطار الابتعاد عن الركب الحضاري للانسانية, بل هي دعوة الى التواصل الحضاري العربي الاسلامي في دعم خصوصية مدننا.
ان اعداد المخططات الاساسية للمدن العربية قد تعرض للكثير من الانتقادات, حيث بدأ الشعور يتنامي بأتجاه الحاجة الى الرجوع الى الطبيعة الانسانية, و هذا لا يتعارض بالضرورة مع الحاجة الى توفير المرافق و الهياكل الاساسية الحديثة التي تنتهي بالشكل العمراني والحضري للمدينة.
ان مواصلة العالم العربي في استيراد اشكال وانماط حديثة وغربية بأفكار وتصاميم مغايرة ومختلفة, قد اوجد تكويناً هيكلياً وانماط حضرية متنوعة بين الحديث والقديم. فالنمط الحضري الحديث اصبح يتميز (16)
1 – الفضاءات المفتوحة الواسعة نتيجة التكوين العالم للحي السكني الحديث بسبب دخول السيارة, بالاضافة الى الفضاءات المفتوحة المتروكة في مقدمة الوحدات السكنية وحولها كالحدائق, تعد من الخصائص المميزة للحديث عن القديم.
2 – ان عدم التوازن المتكون بين الفضاءات والابنية تكون نتيجة سعة الفضاءات المفتوحة بالقياس مع حجم وكتل المباني و نسبها, هذه الخاصية تعطي بصريا الفصل القوي بين كتل المباني والضعف في التماسك اوالربط بين الوحدات السكنية, لذلك فأن الوحدة والتكامل بين الدور والمساحات المفتوحة المحيطة, غير موجود بشكل واضح على صعيد المستوى العام للحي.
3 – ان احد اهم القيم السائدة ضمن الحي الحديث هو النسق الواحد المتكرر على الرغم من ان كل حي قد يتضمن اكثر من انموذج تصميمي, لكنه لم يكن كافياً للتنوع الجمالي المطلوب , وتسوء الحالة بأتجاه الرتابة و الملل وبخاصة عند تكرار الانموذج نفسه على جانبين متقابلين في شارع ما.
ان تللك العناصر الجمالية التي نحس بها ضمن النمط الحضري القديم التقليدي اعتمدت الابهار الدراماتيكي المعتمد على التغير المفاجئ في عناصر الفضاء وهيئة البناية, هذه العناصر مفقودة في النسيج الحديث للاحياء او انها غير مميزة بتلك الدرجة من الوضوح, لكون الفضاءات المفتوحة واسعة تطلبها وجود السيارات وسعة الحدائق الخضراء المحيطة بالوحدات السكنية, مما ادى الى عدم توازن في التعبير المطلوب والانتقال بين كتل المباني والفضاءات المحيطة بها.
ومن الناحية المناخية فانها تحتاج الى كثير من الدراسة ضمن الاحياء الحديثة التي اخفقت في حل كثير من الجوانب التي لاتتلائم و الظروف المناخية المحلية (17).
اضافة الى كل هذه المتغيرات الجوهرية في النسيج الحضري للمدن العربية, فانها عرفت ايضا ظاهرة خطيرة اثرت وما تزال تؤثر في مورفولوجبة المدينة العربية, وهي ظاهرة التجاوزات على استعمالات الارض حيث أصبحت ظاهرة واضحة في المدينة العربية, اذ نجدها تشكل حزاما حول المدن الكبيرة مثل بغداد (18) , وتحيط بكل من دمشق و حلب من جهتها الغربية, في حين انها تتوغل في داخل النسيج الحضري القائم في مدن تونس و الجزائر و كذلك في مدن مصر و المغرب (19) .
و مع تطور المدينة برزت ظاهرة جديدة اخرى اثرت على البنية الاجتماعية للمدينة وهي ظهور أحياء سكينة قائمة على اساس اقتصادي بدلاً من التوزيع السكاني الذي كان سائداً, حيث تم توزيع المساكن او قطع الاراضي على السكان وفق متغيرات المهنة او الوظيفة , مما اوجد بيئات سكنية نمطية معمارياً واجتماعياً الامر الذي اشاع ظاهرة الاغتراب ومن هنا , يمكن تفسير تنافر او عدم تكامل الاحياء الحديثة عموماً لافتقادها التماسك العضوي بين مكوناتها. ان ذلك يعني ان العضوية في التخطيط كانت اكثر توفيقاً قي تلبية تطلعات مجتمع المدينة من النمطية في التخطيط الذي تعتمده مدننا, وهو في جوهره مظهر غريب عن مسار تطورها وعن مجتمعها.
لقد ارتكزت المدينة العربية الاسلامية في صيرورتها على البنية الاجتماعية التي تتسم بالاقتراب وما ينطوي عليه من ألفه(20) . وكانت هذه البنية، التي هي عبارة عن نسيج متماسك، قد نتجت عن طبيعة التطور العضوي الذي تتسم به المدينة العربية الاسلامية، وهو تطور تراكمي انطلق من الداخل الى الخارج على اساس المورفولوجيا الاجتماعية (Social Morphology ). فيما تقوم البنية غير العضوية على اساس التنطيق الوظيفي ( Functional Zoning ) فالاول يستند على العلاقات الانسانية في حين يقوم الثاني على اساس العلاقات الوظيفية وشتان بين الاثنين. فالعلاقات الانسانية تقود الى بنية حضرية اجتماعية متماسكة تتميز بالحيوية، حيث تزداد نسبة ارتياد الفضاءات الحضرية ومن ثم الحضور الاجتماعي الذي يعني الأمان والطمأنينة. اما ارجحية العلاقات الوظيفية فأنها تذهب الى التفاصيل وقيام المناطق الوظيفية (مناطق سكنية، صناعية، تجارية ........ الخ). وهذا يعني سلوك اجرائي في اوقات معينة من قبل الانسان في عملية تنظيمية لاحتواء الفعاليات والنشاطات المختلفة بحسب متطلباتها المكانية. الامر الذي يقلل من نسبة ارتياد هذه المناطق ومن ثم انحسار التلاقي وغياب الحضور الاجتماعي، التي توحي للفرد بالعزلة وفقدان ألامان، ولذلك لا يتحقق التفاعل الاجتماعي الذي هو اساس الاندماج والانخراط في الحياة الاجتماعية المشتركة. ومعلوم انه كلما ازدادت عزلة الفرد ادى ذلك لأصابته بالاغتراب والسلبية. وهذا يعود بنسبة كبيرة منه الى عدم الاطلاع ومعرفة واضعي المخططات الاساسية لهذه المدن للبيئة ميدانيا، وهم على الاغلب من الاجانب في دراسة خصوصية المنطقة والحاجة الفعلية للسكان بهدف ايجاد مدن تنتمي الى واقعنا وظروفنا.

الاستنتـــاج
الواقع، ليس بوسع المراقب المتأمل لطبيعة التغيرات التي طالت الاطار العمراني سوى الخروج بنتيجة واحدة انها قامت على اساس "الحتمية الهندسية" التي تعني هيمنة الهندسي على المكاني. ان الحتمية الهندسية تعد اطرها العمرانية معطاة مسبقا"، وما على الانسان سوى الانضواء تحتها والتكيف لفضاءاتها الحضرية، بمعنى آخر تجعل الحتمية الهندسية للانسان كائناً سلبياً لانها تسلبه خياراته كلها. انه نمط يتسم بالطابع القسري حيث الرتابة والنمطية والتنطيق الوظيفي الذي يفرز اجواء معمارية وتخطيطية لا تنسجم وعضوية النسيج الاجتماعي لساكني المدن، الذي جاؤا بتقليد وقيم اجمتاعية لاتتوفر عناصر ادائها في النماذج الغربية، وانه مستمر التأثير ما لم تبذل جهود لاعادة تفهم اكثر لطبيعة ما يجب ان يكون عليه تخطيط المدينة العربية. اذ ينبغي على المخطط الاساسي ان يستوعب الواقع متوجها" لتنظيمه مستقبلا" ، على ان يبرمج هذا المستقبل انطلاقاً من مؤثرات النمو السكاني والصيغ المطلوبة لتعديل توزيعهم وانشطتهم بما يضمن تنظيم وتطوير الحياة الاجتماعية بالاستناد الى موازنة استعمالات الارض وانظمة الطرق والسكن والخدمات المجتمعية والتحتية باستيعاب المتغير الاقليمي للمدينة.
ان ذلك يعني ان على المخططات الاساسية للمدينة العربية المعاصرة ان تمتلك حداً معيناً من العضوية اللامركزية التي تستند الى استيعاب مجتمعها، أي مستوعبة لمنطلقات الانسان العربي المعاصر المادية والمعنوية والعلمية بما يقلل من غربته المتزايدة في احياء المدينة. وبذلك تحتاج المدينة العربية الى مخططات اساسية وممارسات تخطيطية تستند الى استيعاب واقع الحال وعوامل تشكيله وتحديد التوجهات المطلوبة اجتماعياً وعمرانياً الامر الذي يتطلب ان تكون هذه المخططات والممارسات شاملة مرنة ومعتمدة على معايير معّربة قدر المستطاع .





المصــادر بحسب ورودها في متن البحث
1. عثمان محمد عبد الستار ،" المدينة الاسلامية " ، مطابع الرسالة ، الكويت ، 1988، ص6 .
2. حول الخصائص التخطيطية والتصميمية للمدن القديمة ( ما قبل الاسلام ) انظر : الهاشمي ، زينب زهير ،"الخصائص التخطيطية والتصميمية للمستقرات البشرية القديمة في بلاد النهرين "رسالة ماجستير / مركز التخطيط والاقليمي للدراسات العليا – جامعة بغداد ، 2000 .
3. الكناني ، كامل ،سهام خروفة ،"الاعتبارات الاقتصادية في انشاء وتطوير المدينة العربيو الاسلامية " مدينة بغداد المدورة ، مجلة المخطط والتنمية – جامعة بغداد ، ع8 ،1999 ، ص5 .
4. الموسوي ،مصطفى عباس ،"العومل التأريخية انشأة وتطوير المدينة العربية الاسلامية " بغداد ، 1982 ،ص47 .
5. الكناني ، كامل ، مصدر سابق ، ص6 .
6. AL-Kaissi, Sahir,"Phyiscal Planning system Development of planning Legslation in Iraq", Thesis ph.D, vol.2. 1983, pp 1-3.

7. الكناني , كامل , مصدر سابق , ص 12-15 .
8. مخلوفي , فهيمة , "تحليل الانماط السكينة في المدينة العربية الاسلامية , دراسة تطبيقية لمدينة قسطنطينة – الجزائر ", رسالة ماجستير / مركز التخطيط الحضري و الاقليمي للدراسات العليا – جامعة بغداد ,2000, ص 15 – 16 .
9. النقاش , رغد جرجيس , " توفيق الموروث مع الحديث – دراسة معمارية تخطيط للسوق القديم لمدينة الموصل " ، رسالة ماجستير / كلية الهندسة – جامعة بغداد 1993 ، ص7 .
10. Chaline Claude ,"Les Villes du Monde Arabes " ,Masson , Paris , 1990 p.50 .
11.مخلوفي ، فهيمة ، مصدر سابق ، ص 18 .
12. Ch. Claude ,"Les Villes …op.cit."P.51.
13.الملاحويش ، عقيل نوري , " العمارة الحديثة في العراق " ، بغداد 1988 ، ص19 .
14.الاشعب ، خالص حسني ،دانيمية المجتمع وعضوية التخطيط العمراني " ، بحث منشور في سلسلة المائدة الحرة (33) ، بيت الحكمة ، 1999 ، ص46 .
15.المصدر في أعلاه ، ص 49 .
16.الملاحويش ، عقيل نوري ، مصدر سابق ، ص19 – 22 .
17.حول هذا الموضوع انظر :
- اسراء عبد الغفور " اثر موضوع المدينة في التكييف البيئي للمخططات الاساسية للمدن " رسالة ماجستير / مركز التخطيط الحضري والاقليمي للدراسات العليا – جامعة بغداد 2001 .
- وود ، كرستوفر، ترجمة مضر خليل العمر " تخطيط المدن والسيطرة على التلوث " ، جامعة البصرة ، 1984 ، ص224-229 .
- مارسيا ، دي لاد ، " تخطيط المدن ، الابعاد البيئية والانسانية " ترجمة ايناس عفت / معهد مراقبة البيئة العالمية – الدار الدولية للنشر والتوزيع ، القاهرة ، 1994 .
18.الكناني ، كامل ، علاء الدين عبد الرحمن " التجاوزات على استعمالات الارض للاغراض السكنية في مدينة بغداد " مجلة المخطط والتنمية / مركز التخطيط الحضري والاقليمي للدراسات العليا - جامعة بغداد ، ع6 -1998 ، ص 4-20 .
19. Ch. Claude ,"Les Villes …op.cit."P.110 .
20.الاشعب ، خالص حسني ، مصدر سابق ، ص52 .